(رمضانيات (1): في حضرة الأمام علي (ع

“رائحة العطور وماء الورد والبخور تُكوْن مِسكاً لا تمحي السنين عبيره من ذاكرة الحواس الخمس برمتها”

كعادتي أذهب إلى مدينة مولدي، مدينة النجف الأشرف في العشرين من رمضان كل عام، ليلة أستشهاد الأمام علي (ع). أذهب كل مرة مع مجموعة مختلفة من الأصدقاء، وكأني دليلٌ سياحي وديني في موسم رمضان. تبدأ زيارتنا للذهاب إلى دكان المرحوم الحاج علي مرزة، صديق والدي منذ الطفولة، الذي كان دكانه جزء من المحلات المرتبطة بالسور الخارجي للصحن العلوي في دورة الصحن قبل التوسع والأعمار، ومن الجهة المقابلة لجادة (شارع) الرسول الذي يفصل ما بين محلة الحويش ومحلة البراق القديمتين. الحاج علي يتوقعنا في هذا اليوم من كل عام حيث يدعونا إلى بيته على مائدة أفطار لا يمكن التوقف فيها عن الأكل إلا إذا شعرنا بالاختناق. الفسنجون والسبيناغ ( السبزي) النجفي، والحلاوة الطحينية التي ما زالت رائحتها في أنفاسي. ولابد بعد ذلك من التمدد قليلاً قبل ان نشرب الشاي، قبل الذِهاب لزيارة السوق الچبير (الكبير) في النجف، حيث نأكل حلاوة “الدهينية” المشهورة، ثم لأريهم الدكان الذي كان لابي والمجاور لمقهى الحاج حسين القهواتي. تكون معظم المحلات مفتوحة في السوق لساعات متأخرة ما بعد منتصف الليل. رائحة العطور وماء الورد والبخور تُكوْن مِسكاً لا تمحي السنين عبيره من ذاكرة الحواس الخمس برمتها.   

وفي ليلة أستشهاد أمير المؤمنين (ع) تخرج المواكب الواحدة بعد الآخر لتبدأ من ميدان النجف وهو أكبر ساحة في النجف آن ذاك (قبل تشييد ساحة ثورة العشرين)، لتدخل في السوق الكبير متوجهةً للصحن العلوي، حيث تدخل الصحن من باب “الساعة” يرافقها عادة مفرزة من الشرطة وأمام الموكب يسير أصحاب (كفلاء) الموكب والقائمين عليه ووجهاء المحلة التي يمثلونها. وهي مواكب ردات، يتكونون على شكل عدة مجموعات، عادة يكون لهم ردتين تكمل إحداهما الأخرى. مضمون الردات عن جرح واستشهاد الأمام، مُطعمة عادة بالأحداث السياسية لذلك العام. ردات معظمها أنتقادية لأخفاقات حكومية سياسية واجتماعية أو اقتصادية. ردات تحمل الكثير من الوعي والتحدي للحاكم في كل العهود دون استثناء. وحينما يدخل الموكب الصحن العلوي يكون الموكب الذي سبقه على وشك أن يختم جلسته. وطبعاً توقيتات دخول وخروج المواكب مجدولة بشكل دقيق جداً، منعاً لأي احتكاك ممكن أن يحدث بين المواكب. هناك نوع من ألاعتزاز بالانتماء لموكب معين، وبذلك ممكن أن تحدث مصادمات إذا ما حاول موكب أن يأخذ وقتاً اكثر من المخصص له.

يتوقف جَمهور الموكب على إحدى جهتي الصحن، وبالجهة المعاكسة من الصحن للموكب الذي سبقه منعاً للأحتكاك، ثم يبدأ الرادود بقراءة المستهل (ردات اللطم)، ويبدأ الأحماء تدريجياً كي يحفظ الجَمهور المستهل. أنا من عُشاق الرادود المرحوم عبد الرضا الذي كان يقرأ للشاعر الحسيني المناضل الشهيد عبد الحسين أبو شبع لموكب “البراق” المعروف بتوجهاته السياسية الوطنية. صوت المُلا عبد الرضا النجفي صوت جَهْوَري وقوي، يسيطر على الجَمهور سيطرة كاملة.  يشد الانتباه إليه، حيث لا تسمع أي دردشة أو حتى همساً بين الحضور. في هذه الأثناء تبدأ حملة جمع التبرعات للموكب بواسطة “وكافة” (أداري) الموكب، لتنقل بأيادي مرفوعة كي يراها الجميع، من شخص لآخر لحين وصولها بيت مال الموكب قرب منبر الرادود.

تبدأ ردات اللطم هادئة أول الأمر، لتشتد حماساً مقطع بعد آخر، وكثيراً ما يطالب الجَمهور الرادود بالإعادة، وأحياناً بإلحاح لأنه لا يريد أن يعيد باستمرار ويتأخر عن موعد الختام. وحينما يطلب الجَمهور الإعادة أول مرة، يُعلن الرادود أسم الشاعر الذي نظم تلك القصيدة، حينها يهيج الجَمهور مُحيياً شاعرهم الشعبي الحسيني.

بعد ذلك نذهب لدار الحاج علي مشياً، ورائحة الطبخ الزكية تأتينا من كل ألاتجاهات، لنرى الكثير من البيوت والمواكب والحسينيات والتكيات تطبخ في الشوارع والعكود (الأزقة)، خاصة ألتمن البسمتي والقيمة النجفية المشهورة،  كي يبدأ التوزيع المستمر ولا سيما لوجبة السَّحُور. وعلى ذكر السَّحُور، فبعد أن ننام ساعتين أو أقل، يتم إيقاظنا  للسحور. والسحور هنا أكل يختلف كلياً عن أكل الفطور. انه من الوزن “الخفيف جداً”!، دجاج مقلي، كبة حلب مقلية، كباب عروك،…. وغير ذلك مما يسمى “نواشف”! ننام بعد ذلك، ولا نستيقظ إلا ظهراً، حيث تكون مَحَالّ المدينة مغلقة كلياً حِداداً بمناسبة ذكرى وفاة الإمام علي (ع).
14 نيسان 2021
اليوم الثاني من رمضان
#رمضان      #النجف-الأشرف       #الأمام-علي    #محمد_حسين_النجفي
محمد حسين النجفي
موقع محمد حسين النجفي
يتبع رمضانيات (2)  

10 Comments on “(رمضانيات (1): في حضرة الأمام علي (ع

  1. لوحة وجدانية رائعة تعكس صورة من صورة التأريخ البرئ، لعلها تسجل إرثاً عن جانب من جوانب الهوية الثقافية العريقة والمميزة لحاضرة النجف الأشرف عبر التأريخ تضرب بعروق الأجيال اللاحقة فتشدهم إلى جذورهم وأصلابهم الشامخة الممزوجة بروحانية رمضان وعشق علي عليه السلام
    عاشت أناملك أبا عامر

    • سيدنا الفاضل
      بارك الله فيكم ومنحكم الصحة والعافية، ونشكركم كثيراً على توفير الوقت لقراءة ذكرياتنا النجفية وتشجيعنا.
      أخوكم الصغير
      محمد حسين

  2. اخي الحبيب ابو عامر
    رائحة كلماتك و ماء ما بين السطور تجعل مسك المعاني فيما تكتب من ذكريات اجمل حتى من الزمن الذي كانت فيه. ان ايجابيتك الرائعة تنقي الذكريات من كل مرارة و خيالك الصوري الساحر يعيد لنا المشهد اجمل مما كان في الماضي فشكر لانك تعطينا الفرص مرة اخرى نعيشه بحلوه فقط.

    • شكراً لمروركم أخي العزيز أبا كرار على الرغْم من مشاغلكم الكثيرة، أضفتم وصفاً لا يأتي إلا من حسكم المرهف.

  3. اخي الغالي ابو عامر مااجمل اسلوبك في توالي الاحداث وصياغتها باسلوب مشوق تجعل القارىء يتوق ويحن لتلك الايام البعيدة ويبدو انها ليست بالبعيدة بالنسبة لك ! دمت في رعاية الله

    • أختي الغالية أم بشير
      في هذه الغربة بعيداً عن الوطن ليس لدينا غير الذكريات وعبيرها عبر السنين. هناك ذكريات تلتصق بالذاكرة وتصبح جزءاً منها ولا تتقادم مع الزمن.
      محبتي الأبدية

  4. شكرا عزيزي الاستاذ محمد حسين ابو عامر على هذا السرد الرائع لذكريات
    جميلة جدا توكد روح الاخوة والمحبة النابعة من القلب ندعو الله لكم التوفيق

    • شكراً عزيزي دكتور كاظم أبا يوسف
      تشجيكم يلزمنا بتقديم الأفضل إن شاء الله.
      تحياتي

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You have successfully subscribed to the newsletter

There was an error while trying to send your request. Please try again.

أفكار حُـرة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي will use the information you provide on this form to be in touch with you and to provide updates and marketing.