اين اليسار العراقي

مرّ علينا أسبوع يساري النجاحات وبامتياز، حيث تمكن اليسار الفرنسي من الحصول على 131 مقعداً في الانتخابات الأخيرة على حساب تجمع ماكرون الذي فقد الأغلبية المطلقة في البرلمان، ووقف سداً منيعاً امام سيطرة اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان. وهذا يعني سيكون من الصعب على ماكرون تشريع أي قوانيين ما لم يوافق عليها اليسار. اما في الجانب الآخر من العالم وفي كولومبيا البلد اللاتيني الذي يحكمه يمين اضطهادي قاسي على مر السنين، استطاع اليسار الكولومبي بقيادة غوستافو بيترو ان يفوز فوزاً ذو دلالة في بلد تحت نفوذ السيطرة الأمريكية والشركات الاحتكارية ومافيات الكوكايين، حيث حصل على 50.47% من الأصوات، بينما حصل منافسه المليونير رودولفو هيرنانديز على 47.27%.

إذن سيقود كولومبيا زعيم يساري وسيغير من الخارطة الجيوسياسية لأمريكا اللاتينية خاصة وان كولومبيا جار لفنزويلا وتمر العديد من المؤامرات من خلالها. وسيضطلع اليسار الفرنسي بمهمة حماية الفئات الوسطى والدنيا من التشريعات الجديدة التي تقرض تدريجياً المكتسبات التي حصلوا عليها عبر نضال شاق ولعدة قرون.

السؤال الملح: اين اليسار العراقي؟ نحن امام تجارب انتخابية صعبة جداً خاصة التجربة الكولومبية. اين اليسار العراقي؟ اين الشخصية البراغماتية التي تتمتع بثقافة وتاريخ سياسي، كي يقود الحملة الانتخابية القادمة؟

مختصر الحديث، مقاطعة الانتخابات تعني اللا جدوى، لأنها لا توصل أي حركة للسلطة. وان لم تكن في السلطة بأي شكل من الأشكال، فكيف ستساهم في تحقيق المكاسب للمواطنين وتحمي الوطن. تجربتين واضحتين وضوح الشمس على ان النجاح ممكن حتى في الظروف الشبه مستحيلة، على اليسار العراقي ان يدرسهما بعمق، ويستفاد منهما، وبأسرع ما يمكن، لأننا ربما قادمون على انتخابات قريباً جداً.
راجع أيضاً:
مقاطعة الأنتخابات: البديل الأضعف

#اليسار_العراقي        #الأنتخابات_العراقية          #محمد_حسين_النجفي    www.afkarhurah.com        #www.mhalnajafi.org#

 

سيتذكرونك يا مُظفر

مُظفر النواب

 سيتذكرك العراقيون ابد الدهر يا مُــظفر

 وسوف لن يناسك العُربُ والعجم

سيتذكرك تلامذة الريف والأهوار

حينما كنت تلتقط المفردات السومرية من افواههم

سيتذكرك الرفاق حينما طلبت منهم ان لا يتبرؤوا

ان يرفعوا رأسهم عالياً ومن الوطن لا يتبرؤوا

سيتذكرك الفلسطينيون لدفاعك عن تل الزعتر وعن عفة عروستهم

كذلك

سيتذكرك الحرس القومي ورجال الأمن والمحققون والجلادون

ولن ينسوا صمودك وشموخك امام بطشهم

سيتذكرك السجانون، وكيف استطعت الهروب من زنزاناتهم

ستتذكرك رمال البادية وأطلال نكرة السلمان

وسيتذكرك الملوك والحكام العرب لأنك بجرأة نادرة سميتهم بأسمائهم

 **************

وبعد رحيلك

سيتذكرك الآخرون ويسيرون في جنازتك

سيتجاهلون ذكر انتمائك السياسي

وسينكرون عليك القضية التي أمنت بها

سيتذكرون الريل والحمد

وينكرون عليك مناجاة ليالي البنفسج

سيتذكرون ان حِدر السنابل قِطه

ولن يتطرقوا لظلم الإقطاعي ودم صويحب

*************

وهذا ما لا تريده يا أبا عادل

يا شهيد التشرد والتغرب والاضطهاد

يا من صمد كانسان وكموقف وكلمة

كلامك بالحق لاذعٌ، لا معسول به

يعكس واقع حزين ومؤلم حد النخاع

يهز مشاعر الإنسانية فينا

 **********

نعم يا مُــظفر، بعد رحيلك سيحتضنك الآخرون

سيطبعون مختارات من اشعارك وينشروها بجنون

سوف ينتقون من شعرك الرومانسي ما يريدون

ويلحنه الملحون ويتغنى به الفنانون

كما تغنى الساهر بمختارات من شعر نزار

وأهمل قصائده السياسية

لأنها غير مربحةً في السوق

 **********

ولكننا يا مُــظفر سوف نتذكرك ما حُيينا

سنتذكرك مناضلاً ابياً وشاعراً ملتزماً

سنتذكرك ونُذكر الأجيال من أنك انساناً قبل ان تكون مناضل

ومناضلاً قبل ان تكون شاعر

وشاعراً مرتبط بقضية الكادحين مصيرياً

قضية الجاكوج والمنجل وصويحب وسعد وسعود

 وآهات الليالي البنفسجية

يا صاحبي نحن نفهم ما تعني مفرداتك وما تقول

نَمْ قرير العين يا مُـــظفر

محمد حسين النجفي

www.afkarhurah.com

حزيران 2022

#مظفر النواب       #محمد_حسين_النجفي

 

ذكريات شارع الهندي العريق

شارع الهندي الكرادة الشرقية

تعتبر الكرادة الشرقية من بين اهم ضواحي العاصمة بغداد من حيث تعداد النفوس والمساحة الجغرافية والتنوع السكاني. إلا ان اهم ما يميزها هو كونها شبه جزيرة يلتف حولها نهر دجلة العظيم من ثلاث جهات. كذلك كورنيش ابي نوأس ومقاهيه الجميلة والسمك المسكوف وبهجة وشعبية الكرادة داخل، وروعة ونظافة الكرادة خارج، وتحرر وحداثة عرصات الهندية وأناقة منطقة المسبح. ويعتبر شارع الهندي من بين الشوارع المهمة في قلب الكرادة الشرقية حيث يقع في منطقة البوجمعة ما بين منطقة الهويدي والبوليسخانة. قضينا في شارع الهندي احلى ايام الطفولة والحداثة والمراهقة من عام 1954 لغاية عام 1961، سبعة اعوام مهمة في ترعرع ونمو شخصية اي انسان ورسم ابعاد توجهه في الحياة. لم يكن شارع الهندي منطقة سكنية محدودة، وإنما كان محلة متكاملة وكأنها مدينة صغيرة في قلب الكرادة الشرقية. من بين الأحداث المهمة في هذه الفترة هي افتتاح البث التلفزيوني، والتعداد السكاني لعام 1957، ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، احداث الموصل في آذار عام 1959، احداث كركوك في تموز عام 1959، محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1961، ومشاهدة النقل المباشر لمحكمة الشعب (المهداوي).

كانت الألعاب التي نمارسها في الشارع موسمية.  ففي الصيف يبدأ موسم الطيارات الورقية من السطوح، وكنا احياناً نعلق في الخيط فوانيس ورقية بداخلها شمعة كي تضيئ في الليل. واحيانا نغلف الخيط بطحين البامة اليابسة حيث نطحن البامية اليابسة ونمررها على الخيط وننشر الخيط حتى ييبس كي يتحول الخيط حاداً كالسكين اذا ما تقاطع مع خيط آخر لشخص غريم يقطعه ويفقد طيارته الورقية. وهناك موسم “المحية” وهو موسم يستخدم به  البوتاز (مفرقعات) نصنعها في البيوت وهي ممنوعة قانونياً ولكن الكل يستعملها. نشتري المادة المتفجرة وهي مسحوق مثل الكركم من “حسن علو” وهو بقال في منطقة سبع قصور. ونجمع حصى في خرقة قماش نضع فيها عدة حصوات وننشر عليها الزرنيخ (المسحوق القابل للانفجار) ونشدها بخيط. وعند رميها في الشارع على ارض صلبة تنفجر وتحدث صوت مدوي. ولعبة الدعبل من اكثر الألعاب ديمومة وعلى مدار السنة. وهناك لعبة المرصع والجعاب والصنطرة توتو، ولعبة البوزة وهي خض بطل الكوكا كولا وفتحه والمراهنة الى اي حد تصل بوزة الكوكا المنسابة من القنينة، وغيرها الكثيرمن الألعاب. وحينما وصلنا عمر الأحداث كانت لعبة كرة القدم من اهمها وكنا نتابع الفرق الرياضية وخاصة منتخبي آليات الشرطة ومنتخب القوة الجوية ومنتخب الزوراء، ونذهب لمشاهدتها في ساحة الشرطة قرب القصر الأبيض وساحة الكشافة في الأعظمية.  ومن بين المشهورين في كرة القدم آن ذاك كان جمولي (جميل عباس)، عمو بابا، ارشاك، يورا، قاسم زوية، حامي الهدف لطيف شندل وحامد فوزي والمعلق الرياضي المشهور مؤيد البدري.

من بيت اهم السكان القاطنين تلك الأيام في شارع الهندي بيت الحاج حسن الأمين الدقاق، من تجار الحبوب المهمين في علاوي الشورجة، ومنهم صديق العمر حكمت محمد جواد الدقاق، وبيت الكاتب والمؤرخ العراقي السيد عبد الرزاق الحسني ومن ابنائه قاسم وأمين وأنور والصديق طارق و زملاء الدراسة في مدرسة الحكمة الأبتدائية سليم وابنته أحلام، وبيت مهدي الطالب مالك شاحنات نقل ضخمة، وأبنائه سلمان وسالم والأصدقاء خميس وصباح وحامد، وبيت امير رومايا ومنهم الصديق هلال حنا، وبيت المحامي عبد الحليم القيم ومنهم الصديق علي القيم وبيت السيد عبد الأمير السيد صالح النجفي ومنهم الصديق زكي وسعد، وبيت عبد الأمير الجميلي وعبد الغني الجميلي العائلة المعروفة بصناعة بسكويت الجميلي المشهور وأبنائهم فوآد وأياد ومعن (وقد أعدم فوآد في عام 1979/1980)، وبيت سبع ومنهم علي وسامي وبشير وعلي الزغير، وبيت العقيد يوسف شكوري وهو صيدلي واصبح مديرصحة الشرطة العام، وبيت الدكتور نبيل الذين يعتبرون من أوائل سكنة شارع الهندي وكذلك الحسني، وبيت عبد علي الطحان ومنهم الأخوة سعيد وسمير ابناء الخياطة المشهورة حسنية السورية الأصل وكانت تعمل معها فاطمة النجفية، التي اصبحت تعمل لنفسها في بداية الستينات، وبيت العبيدي ومنهم البقال حميد (قنبل) وبيت الجراح ومنهم ماجد الجراح وبيت الزبيدي ومنهم الصديق ابراهيم  وغيرهم كثيرون. لكل واحد من هذه البيوت قصة تحكى ولكل من اصدقائي احداث تاريخية  تذكر. ولكن في جميع الأحوال كان ذلك زمناً جميلاً وكان عصرنا الذهبي.

العوائل التي تحدثت عنها واولهم السيد عبد الرزاق الحسني كاتب واديب ومؤرخ اساسي للوزارات العراقية. كان يخرج من بيته صباحاً وبيده كتاب يقرأه من خلال نظاراته الطبية الصغيرة التي يضعها على نهاية انفه، والتي كنت استغرب كيف انها لا تسقط من وجهه الى الأرض. فهو يمشي ويقرأ الى ان يصل ناصية الشارع العام دون النظر يميناً او شمالا ولا يسلم على هذا او ذاك، واعتقد ان ذلك كان مقصوداً. ومن هناك يستخدم سيارات الاجرة (النفرات) للوصول الى ديوان رئاسة الوزراء حيث مقر عمله. لم يكن اجتماعيا مع جيرانه، الا انه في فصل الربيع كان يبعث باقة ورد جوري “ياسمين” صغيرة بيد ابنته احلام للجيران في الصباح. ظاهرة جميلة لم تكن شائعة ولم يقلدها اي من بقية الجيران. لم تكن علاقته جيدة مع جاره مقابل بيته وهو مهدي الطالب (ابو سلمان)، وهو شخصية محترمة جداً في محلتنا. لأن ابو سلمان كان يملك عدة شاحنات كبيرة لنقل الرمل والحصى، ضوضائها صاخب جدا. لم يعتقد السيد الحسني ان شارعنا كان مناسبا كموقف لمثل هذه الشاحنات. اما الحاج حسن الدقاق وعائلته فهم من اقدم العلاقات العائلية لعائلتنا من قبل الوالد والوالدة. علاقة الوالد معهم قبل نزوحنا الى بغداد من النجف الأشرف. وكانوا اول جار لنا في بغداد محلة الدهانة مقابل جامع المصلوب. وكان من كبار تجار المواد الغذائية التموينية مثل الرز والحبوب، يساعده في ذلك ابناءه محمد جواد (ابو حكمت) وعباس (ابو حيدر). كانوا عائلة كبيرة وكان الصديق حكمت وانا متلازمين دائماً واشتركنا في كل الألعاب ومارسنا كل المسموحات والممنوعات معا وتعرضنا للمسآئلة والضغوط والأضطهاد كأننا توأم.

كنا حكمت وانا لدينا معلومات واسعة عما يحدث في شوارع الكرادة سواء المعلنة منها والمخفية. من كان صديق من؟ ومن هي صديقة فلان؟ ومن هو صديق فلانة؟ اي من المعلمين ممن كانوا يعتدون على الطلاب جنسياً؟ من هم الشقاوات في المنطقة؟ من هم الذين يديرون محلات التلخانه ( وهي مقاهي شعبية في النهار تغلق وتتحول بعد منتصف الليل الى نشاطات ممنوعة من بينها لعب القمار). كل تلك المعلومات كانت تصل الينا ونحن مازلنا في بداية عمر المراهقة،  إلا انها خلقت لدينا وعياً شارعياً لعب دوراً كبيراً في حمايتنا من الأعتداءات التي كان يتعرض لها الأطفال والأحداث والتي لا تعد ولا تحصى لدرجة انها كانت شائعة لتكون واقع مرير تتستر عليه العوائل لجسامة وفشاحة تداعياته على الضحية والعائلة. كنا نرى ونعلم بتعرض بعض اصدقائنا لهذه الممارسات وكيف يؤثر ذلك على سلوكهم الفردي وانكسارهم النفسي وانسحابهم من الأختلاط الطبيعي مع الآخرين.

وُلد اخي سعد في 7 أيار،عام 1957 واخي سلام في 29 ايلول عام 1959 في شارع الهندي. كذلك توفى جدي لأبي تبعه وفاة جدي لأمي. من طبيعة والدتي انها لا تخرج من البيت إلا نادراً، لأننا والحمد لله خمسة اولاد واختين. لم تكن والدتي تستطيع ان تزور الجيران وذلك لكثرة مشاغلها مع ابنائها، الا انها كانت تستأنس بزيارة جيراننا لنا ومنهم ام حكمت وام حيدر وفاطمة وسنية من بيت الحاج حسن الدقاق وكانوا مثل الأهل معنا يزورونا متى شاؤوا بدون اية رسميات.

كان في راس شارع الهندي كرادة داخل (على الجوة) عيادة للدكتور صادق ابو التمن (والد الصديق لؤي لاحقاً)، يقابله على الجانب الآخر عيادة الدكتور صاحب علش. اما على يسار مقدمة شارع الهندي فكان هناك نوعان من المحلات. المحلات الدائمية مثل بقالة عبد الحسن وبياعي الفواكه والخضر الذين يفتحون صباحاً ويغلقون مساءاً، إلا انهم لا متاجر ثابته لهم ومنهم “بيبية” وابنائها سالم وصديقنا نعمة، وكذلك الأخوان هادي ووادي، وغيرهم كثيرون. وعلى يمين شارع الهندي بأتجاه االباب الشرقي دكان لصاحبه ابراهيم قربان الذي كان مظهره يدل على انه معلم او موظف مصرفي من انه صاحب بقالة. بينما على مسافة منه قرب موقف باص الأمانة كان محل حميد العبيدي (الملقب بحميد قنبل) الذي كان ملائماً اكثر لمصلحته. وبينهما كان المحل الكبير الواسع لحلويات “الحاج جواد الشكرجي” وهو من الرموز التجارية المعروفة لصنع وتوزيع الحلويات في بغداد والذي يمتلك فروع عديدة ومتميزة.

كانت الكرادة الشرقية تحوي مجتمعات راقية ومجتمعات متدنية في آن واحد. تحوي على العديد من الجوامع والحسينيات ومنها حسينية “عبد الرسول علي” التي كان الشيخ الوائلي يؤمها في العشرة الأيام الأولى من شهر محرم الحرام وعشرة ايام من شهر رمضان. وكان شارع ابي نؤآس الذي يبدأ من الباب الشرقي وينتهي في شارع الكنيسة (البوليسخانة) آن ذاك قبل ان يتم تكملته ليصل الى الجسر المعلق ثم ليصل الى الجادرية. كان ابي نؤأس مركزاً سياحياً وترفيهياً لعموم بغداد حيث تنتشر على امتداده العديد من المطاعم والمقاهي ومحلات الشرب التي يرتادها الرجال فقط في ذلك الحين ومنها مقهى الحدباء لصاحبها “زناد” الذي كانت مقهاه سابقاً في البتاوين محل عمارة النصر حالياً ولديه مقهى في نهاية سوق التجار وعلى ضفاف نهر دجلة. وثلاثية مقاهي الصفراء والخضراء والحمراء. كذلك كانت الكرادة مركزاً للعديد من المثقفين والسياسين المعروفين، ومنهم الدكتور ابراهيم كبة وزير الأقتصاد في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، وشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري ومؤرخ الوزارات السيد عبد الرزاق الحسني واستاذ القانون الدولي الدكتور محمد علي الدقاق والدكتور الجراح عبد المجيد حسين مؤسس مستشفى عبد المجيد والتجار المعروفين عبد الرسول علي ورضا علوان وجابر مهدي البزاز.  وبنفس الوقت كان الشارع العام مرتع للأشقياء و”الهتلية” والسرسرية امثال عبد الحسين هبوش وابو الريم (الأعمى) وجودة وغيرهم كثيرون.

كان شارع الهندي بالنسبة لي مدرسة الحياة التي بنيت فيها معالم شخصيتي وتوجهي في الحياة. في هذا الشارع تنبهت سياسياً لما يدور حولي وكونت توجهاً منحازاً لأفكار ظلت عالقة طول العمر. وفي هذا الشارع بدأت مبكراً في قراءآت ثقافية لم يتسع للغير الأهتمام بها. قرأت لعلي الوردي “وعاظ السلاطين” و”مهزلة العقل البشري”، وقرأت لجورج جرداق “علي صوت العدالة الأنسانية”. وفي هذا الشارع تعرفت على الشيخ احمد الوائلي حينما كان في عز شبابه. وفي هذا الشارع بدأت العمل مع والدي في الشورجة. وفي هذا الشارع خفق قلبي لعلاقات عاطفة منها البريئ ومنها الغير بريئ. وفي هذا الشارع التزمتُ ونشطتُ سياسيا، وعاصرت احداث سياسية جسام مثل ثورة تموز عام 1958، وحركة الشواف في الموصل، ومحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد. ومن هذا الشارع شاركت في مسيرة الواحد من أيار 1959 حينما هتف مليون عراقي في شارع الرشيد من ساحة التحرير إلى وزارة الدفاع في باب المعظم:

عاش زعيمي عبد الكريمي       حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي
أسألوا الشعب ماذا يريد           وطن حر وشعب سعيد
أسألوا العامل ماذا يريد           وطن حر وشعب سعيد
أسألوا الشرطي ماذا يريد        وطن حر وشعب سعيد

وفي تلك الأعوام المفصلية في بداية الستينات بدأت الأحداث في العراق تأخذ منحى معاكس. حيث تحول الصراع بين الأفكار والبدائل السياسية الى صراعات دموية سفكت بها دماء السياسين المتخاصمين، وكانت حصة الأسد في الضحايا من نصيب اليساريين خاصة من سكنة الموصل، مما جعل سفك الدماء بشكل جماعي بعد حركة 8 شباط المشؤومة امراً استمرارياً لما حدث من قبل. وفي نفس الوقت بدأت الدول الخارجية تتدخل بشؤون العراق وخاصة الجمهورية العربية المتحدة (مصر)، والعالم الغربي. إن ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، لم تكن انقلاباً عسكرياً لتغيير من هم في سدة الحكم، وانما كانت حركة ثورية تنشد التغيير الجذري في الشؤون السياسية والأقتصادية والأجتماعية. وعليه اتخذت الثورة خطوات ضربت بها مراكز نفوذ تقليدية في الداخل، وحجمت المصالح الأجنبية في الخارج. ومن بين هذه الخطوات كان قانون الأصلاح الزراعي، وقانون الأحوال الشخصية، وهذين القانونين الحقا الضرر بمصالح ونفوذ رجال الدين الذين يُمولون من قبل رؤساء العشائر وهم في معظم الأحوال ملاك أكبر وأخصب الأراضي الزراعية، التي استولوا عليها أثناء حقبة العهد الملكي. كذلك فعل قانون الأحوال الشخصية، حيث نظم هذا القانون علاقات الزواج والطلاق والأرث  بما يضمن حقوق المرأة ويرفع من شأنها. وبذلك انقسم الشعب العراقي بين مؤيد للزعيم ومعادي له. يضم الفريق الأول ما لايقل عن 80% من الشعب العراقي خاصة الفقراء والعمال والفلاحين والكسبة، وسياسياً الشيوعيين وقسم من الحزب الوطني الديمقراطي. ويضم الفريق الثاني البعثيين والناصرين، وتضامن معهم بعض رجال الدين والأقطاعيين الذين تضررت مصالهم الشخصية، مع اسناد خارجي قوي جداً. وبذلك ابتدأت سلسلة المؤآمرات، من عبد السلام عارف، ثم رشيد عالي الكيلاني، ثم حركة الشواف في الموصل، واحداث كركوك الدموية بين الأكراد والتركمان، ومحاولة اغتيال الزعيم في شارع الرشيد.

كان لهذه الأحداث ابعاد سياسية واجتماعية أثرت على علاقة الجيران بعضهم ببعض، وعلاقات الصداقة، في المحلة وفي المدرسة. وبدأ الكل يفكر اين موقعه واين موقع الجيران والأقارب والأصدقاء من ذلك. وبدأت الحوارات في الدوائر الحكومية، والمتاجر التجارية، والمدارس والجامعات، وفي البيوت كلها سياسية. وادى ذلك الى تحول بعض الصداقات الى عداوات، والى انفضاض بعض المجالس بالصياح والعياط، هذا يدافع عن الزعيم وذلك يحب جمال عبد الناصر ويريد الوحدة مع مصر. وكانت محاكمات المهداوي (محكمة الشعب الخاصة) تؤجج هذا  الصراع لأنها كانت تُنقل حية عبر شاشات التلفزيون الذي كان الجميع يلتصقون به من اصغر فرد في العائلة حتى اكبرها. واتذكر جيداً ان ابي اشترى التلفزيون وادخله في بيتنا كي يشاهد محكمة الشعب التي ابتدأت بمحاكمة رجال العهد البائد (العهد الملكي) امثال بهجت العطية وسعيد قزاز. ثم محاكمة عبد السلام عارف، وكانت اشهرها محاكمة ناظم الطبقجلي ومن ثمّ المشتركين بمحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم.

ادى انشطار الشارع العراقي الى قسمين رئيسين الأول الزعيم والشيوعيين من جهة والثاني البعثيين والقوميين من جهة اخرى،أدى الى مصدامات دموية، ومنها احداث كركوك في يوم الأحتفال الأول بذكرى 14 تموز 1959، مما ادى الى اراقة الدماء بين الأكراد والتركمان والتي استغلتها القوى المعادية للثورة وتلبيسها برقبة الشيوعيين. وانعكس ذلك في خطاب الزعيم حينما افتتح كنيسة مار يوسف في 17 تموز 1959 في الكرادة الشرقية، والقى كلمة ابدى فيها غضبه من الشيوعيين والأكراد واسماهم بـ “الفوضويون”. استغلت اجهزة الأمن والمخابرات التي كانت مُسيطر عليها من قبل القوى المناوئة للثورة، وقامت بحملة اعتقالات واسعة، في الموصل وكركوك وبغداد، وعلى وجه الخصوص للقيادات العمالية والفلاحية والناشطين المعروفين. بعد هذا الخطاب انشطر العراق الى ثلاثة اقسام، الزعيم والقاسميين والمؤيدين له وهم عموم الناس ولكن خصوصاً الفقراء الذين رعاهم ورفع من مستواهم، القسم الآخر هم الشيوعيين الذين ابعدهم الزعيم عن دائرته وابعدهم عن المناصب الحساسة في اجهزة الدولة وخاصة الجيش، علماً ان الشيوعيين كانوا مايزالون محبين للزعيم ومدافعين عن الثورة، اما القسم الثالث فهو البعثيين والقوميين والذين ابتدؤوا بتقوية قواهم بأسناد من الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) والتعاون من القوى التي تضررت من الثورة وهم جماعة العهد الملكي، والأقطاعيين المتضررين من قانون الأصلاح الزراعي، ورجال الدين الذين سحب قانون الأحوال الشخصية البساط من تحت اقدامهم.
محمد حسين النجفي
رئيس تحرير موقع أفكار حرة

#محمد_حسين_النجفي         #شارع_الهندي       #الكرادة_الشرقية       #www.afkarhurah.com             www.mhalnajafi.org

تبعاتُ التبعية: قصة فتاة كربلائية

“رحلتْ بخطواتٍ ثابتة الأقدام، تاركةً ورائها موظفاً بائساً يائساً مُعقداً،
يتصنع الرجولة على حساب فتاة يافعة في مقتبل الحياة”

هناك متطلبات وأوراق ثبوتية نحتاجها في كل مرحلة من مراحل حياتنا. فعلى سبيل المثال لكي يُقبل تسجيل الطالب في المدرسة الابتدائية، لا بد له من ان يقدم هوية الأحوال المدنية، أو دفتر النفوس كما كان يسمى سابقاً، كي يوثق بها اسمه وعمره. أما القبول في الجامعات العراقية فكان يتطلب ان يثبت الشخص عراقيته عن طريق استحصاله على شهادة الجنسية العراقية.

يذهب الطلاب بمفردهم او مع ذويهم مُزودين بالمستندات العائلية التي لديهم الى دائرة الجنسية العراقية. وهناك يكتشف البعض ان ليس كل العراقيين، عراقيون! فبعضهم ينحدرون من عوائل تحمل شهاداتهم “التبعية العثمانية” وهم مواطنون من الدرجة الأولى، وآخرون ينحدرون من عوائل تحمل شهاداتهم “التبعية الإيرانية” وهم مواطنون من الدرجة العاشرة أو أدنى. وطبعاً هناك عوائل لا يحملون أي من الإثنين، لأنهم لم يحتاجوا اليها، او لم يستطيعوا الحصول عليها، وهؤلاء لم يصنفوا مواطنين بعد!

 تصبح الحاجة الى شهادة الجنسية ضرورية، للتعيين الوظيفي الحكومي، او للحصول على جواز السفر، او للقبول في الجامعات، أو للحصول على امتيازات تجارية مثل القبول في غرف التجارة أو الحصول على إجازة استيراد البضائع من الخارج. والحالة الأخيرة هي التي اضطرت والدي ان يتقدم للحصول على شهادة الجنسية ويحصل عليها عام 1951.

كان عام 1965 عام تخرجي من الإعدادية. وكان لابد لي من استكمال اوراقي للتقديم المركزي للجامعات العراقية، ومنها شهادة الجنسية. ذهبتُ بكل فخر واعتزاز كوني خريج بمعدل جيد يؤهلني للتقديم الى اي كلية ارغب بها. أخذت معي الأوراق الثبوتية من والدي، وقدمت الطلب عن طريق العرضحالجي، وذهبت الى الواردة، وأحالني مفوض  الواردة الى الملازم المختص، الذي طلب مني ان أعود بعد يومين. يجلس هذا الملازم الكفوء الذي لازلت أتذكر اسمه في غرفة خاصة بمفرده، نحيف أصفر الوجه، ذو شوارب سوداء من نوع الذي يشكل أطار يبلغ شفته السفلى . شرطي واقفٌ أمام مكتبه، نسأل الشرطي عن معاملتنا، لأننا لا نجرأ ان نسأل من بيده أمرنا. نعم بيده مطلق الصلاحية ان يقرر من هو عراقي ومن هو ليس عراقي. من هو عراقي عثماني من الدرجة الأولى، ومن هو عراقي تبعية إيرانية مشكوك بعراقيته ووطنيته وولائه لتربة الوطن.

ما زالت معاملتي مُستعصية مع الملازم الحريص على نقاء عثمانية العراقيين. علماً أن تركيا تبرأت من الإرث العثماني على يد كمال أتاتورك. ذهبت للمرة الثالثة أمام باب الوالي العتيد. واقفين أنا ومجموعة من الشباب للغرض نفسه. من بين المراجعين فتاة من عمرنا، منتهى الجمال والوقار، تلبس العباءة السوداء بكل أناقة واحتشام. حُسنها يفرض عليك ان تختلس النظر اليها بين الحين والحين. إلا انها كانت متمكنة من نفسها، لا يمكن لأحد منا ان يتجاوز حدوده معها. طال انتظارنا أمام مكتب الباشا. عبرنا منتصف النهار دون ان يترحم بنا وبشبابنا بمعلومة عن معاملاتنا. طلبت الفتاة الأنيقة من الشرطي ان يبلغ سيادته من أنها من مدينة كـــــــربلاء، ولا تستطيع التأخر لانعدام المواصلات مساءاً. دخل الشرطي وخرج بخفي حنين، وأبلغها ان عليها القبول بالانتظار. انتظرنا بعد ذلك ساعة او ساعتين، وسنحت للفتاة فرصة ذهبية حينما خرج سيادته من مكتبه، فمالت عليه بتردد وأدب، وطلبت منه بكل رجاء ان ينهي معاملتها كي تعود الى كــــــــــربلاء، لأن أهلها سيقلقون إذا لم تعد قبل جنوح الظلام. انزعج سيادته وغضب من جرأتها على إيقافه وهو بالطريق الى الحمام، وأخذ يشتمها بكلمات نابية، وكفخها (ضربها) على رأسها بقوة أسقطت عباءتها. ولم يتوقف عند ذلك، بل أستمر في الشتائم بطريقة تنم عن حقد متأصل في نفسه وعقيدته، لفتاة عراقية مجتهدة تروم التعلم كي تخدم وطنها، لا لشيء، إلا احتمالية ان تكون من أصول ايرانية. ظلت الفتاة واقفة، لملمة نفسها ولبست عباءتها بسرعة هائلة. لم تبكي ولم تنحني، واستدارت بكل شموخ وكبرياء، ورحلت بخطوات ثابتة الأقدام، تاركةً ورائها موظفاً بائساً يائساً مُعقداً، يتصنع الرجولة على حساب فتاة يافعة في مقتبل العمر. ومن سخريات القدر ان يصبح هذا الملازم لاحقاً مديراً عاماً للجنسية.  
#التبعية_الأيرانية          #التبعية_العثمانية          #الجنسية_العراقية
أنظر أيضاً:
شُباك المهانة

محمد حسين النجفي
رئيس تحرير موقع أفكار حرة
www.afkarhurah.com

حُـــــبٌ بلا عِـــــناق

قصة حب حزينة ومؤلمة جداً لا زالت عالقة في مخيلتي منذ أيام طفولتي. إنها قصة جميل الذي أحب أبنة خالته جميلة. كانوا في مقتبل العمر، وكان جميل ما يزال في طور شق طريقه وبناء مستقبله، كي يُأهل نفسه للزواج. ولما كانت الحياة الاجتماعية في خمسينات القرن الماضي، مبنية على الزواج المبكر، قرر جميل ان يستعجل ويتقدم لخطبة ابنة خالته قبل ان يتقدم لها الآخرون، خاصة وان جميلة كانت اسماً على مُسمى، ومن عائلة محترمة جداً وذويها من تجار بغداد المعروفين. كانت عائلة جميلة، عائلة تقليدية تعتمد في قراراتها على حكمة الأخ الأكبر لهذه العائلة، الذي ارتأى ان جميل لا يصلح ان يكون زوجاً لأخته الوحيدة. فرفض طلبه وإن كان من أقربائه. كان قرار الأخ الأكبر يعتمد على بعض المُسببات الوجيهة كالتكافؤ المالي والتحصيل العلمي والمركز الاجتماعي، وربما وجود بعض المشاكسات والخلافات  التي تعاني منها كل العوائل. إلا ان ذلك لا يمنع ان يُقابل ذلك توفر مُسببات أخرى تدعو للقبول، منها انه يحبها وهي تحبه، وانه شاب مستقيم، ومجتهد في عمله، وربما سيكون له مستقبل تفتخر به العائلة. المهم ظل هذا الموضوع مُعلقاً.

كانت عائلة جميلة وعائلتنا متقاربتان جداً، حيث كان اخاها الكبير على علاقة تجارية مع والدي تطورت الى علاقة صداقة عائلية في بداية حياته التجارية في بغداد. كانت جميلة تزور والدتي كثيراً، لأن بيت والدتي كان مضيفاً مفتوحاً للأقارب والجيران، وخاصة النساء اللواتي يتعرضن للتعسف والظلم الاجتماعيين. كان حديث جميلة مع أمي عن جميل ومظلوميتها وحيرتها، بين احترام قرار أخيها الأكبر وبين نداء الحب المتسلط على مشاعرها. كنت أرى وجه جميلة يفقد ببشاشته ونوره وآخذاً في الذبول تدريجياً. جميل شاب محترم لا يستطيع ان يتخطى الخطوط الحمراء التي أرسى أسسها المجتمع والتقاليد والعرف والدين. وبالتالي ظل الموضوع قيد الحفظ، وكلما يثار بين فترة وأخرى، يُسدل عليه الستار بسرعة.

مرت الأيام وإذا بالأخ الأكبر يتعرض لمرض عصي أدى في نهاية الأمر الى وفاته وهو في عز شبابه. كانت مأساة عائلية ومصاب جلل، لأنه كان الشخصية التي ترتكز عليه هذه العائلة الكبيرة من حيث الإدارة التربوية والمسؤولية المالية. جميل لم ينسى حبه الأبدي، جدد محاولته لخطبة جميلة من بقية الأخوة وبعد مضي وقت مناسب. كان الجواب هذه المرة: لقد قرر المرحوم، ولا نستطيع كسر قراره ورغبته بعد وفاته. كنت استمع الى هذه الأحاديث بين جميلة وأمي، وكنت أرى شحوب وجه جميلة وهي تتحدث عن ذلك، وأرى أمي كيف تتأسى عليها وتُطيب خاطرها دون ان توجهها لقرار معين. كانت تشاركها حزنها، وتعطف على مأساتها وعلى حرمانها من حقها في الاختيار دون ان تشجعها على الخروج عن طاعة عائلتها.

كان جميل الذي يعمل في سوق الشورجة مثلنا، شخصية محبوبة جداً، نظيف في سلوكه وهندامه. المرح والبشاشة في وجهه من طباعه الفطرية، إلا انها لم تستطيع ان تخفي تلك الغصة الأبدية في قلبه، والأسى من حرمانه لتكون حبيبته شريكة حياته. وأنا في عمر المراهقة كنت اتحسس مأساة جميل وجميلة اللذين يكبرانني بحدود العشرة أعوام. كنت حينما ارى اي منهما استذكر القصة برمتها، وكأنها قصة قيس وليلى او قصة روميو وجوليت. حاول جميل مرات ومرات ان يخطبها من إخوتها ابناء خالته، إلا انهم كانوا دائماً يردون عليه بنفس الجواب دون زيادة او نقصان، من أنهم لا يستطيعون ان يكسروا قرار المرحوم. لم يستطيعوا كسر قرار مضى عليه زمن، إلا انهم كسروا قلبين طيلة العمر كله.

Heart Touching Sad Love Story - Home | Facebook

ومرت على هذه القصة سنين طوال. ورغم أنى فارقتهم منذ أربعين عاماً، إلا انني لا زلت اتذكرهم كلما سمعت قصة حب مؤلمة. لا أدري ما حل بهما، هل تزوجا، أم انتهى حبهما كما بدأ عذرياً. وخوفي أنهما فارقا الحياة دون ان يجمعهما سقف واحد أو يذوقا طعم العناق.
محمد حسين النجفي
رئيس تحرير موقع أفكار حُرة
www.afkarhurah.com

قاطعـــــــــــــــة الـــــــــــــزهور

“أرتقت قدرات الحرس الجامعي بتركيزها وبحرصها الشديد،
من كبس سرقة كانت تتم كل يوم أمام مرئ الناس وبوضح النهار”

كعادتي كل يوم أزور رئيس قسم الإدارة في الجامعة المستنصرية، حينما لا يكون لديّ حصة دراسية. أتحدث فيها قليلاً مع سكرتارية القسم متمثلة بالآنسة  هاسميك آرتين* والآنسة هناء خليل، قبل الدخول إلى مكتب رئيس القسم للتباحث معه في العديد من الأمور، ذات ألاهتمام المشترك، ومنها نشاط لجان القسم الذي هو رئيسها بحكم منصبه وأنا عضوها ومقررها بالانتخاب. من بين أهم تلك اللجان لجنة المناهج الدراسية ولجنة تطويرالمكتبة ومركز التدريب والتطوير الإداري للقطاع العام. وكانت سكرتارية القسم تساعدنا كثيراً في طباعة محاضر الجلسات ومقترحات تطوير المناهج والمراسلات مع العمادة ورئاسة الجامعة. كانت كُلْيَة الإدارة والاقتصاد في النصف الثاني من سبعينات القرن المنصرم، وبالأخص قسم الإدارة يعمل كخلية نحل، حيث نظمنا دورتين تدريبيتين لإدارة التسويق الحديث، لموظفي القطاع العام التجاري، التي حققت نجاحاً باهراً واستحسانا من قبل المشاركين. كذلك نظمنا ندوة ثقافية في القاعة الكبرى للاحتفالات، قدمتُ فيها محاضرة عن أهمية التسويق والإعلان التجاري للدول النامية: العراق إنموذجاً. شارك وحاور فيها معي زميل مصري ومندوب من الشركة العامة للإعلان والتوزيع، وحضرها جميع طلبة الصف الثاني إدارة الأعمال وعميد الكلية ورئيس قسم أدارة الأعمال ومعظم أعضاء الهيئة التدريسية. هنأني العميد الذي كان منبهراً لنشاط لا سابقة له في الجامعة، وقال لي: أستاذ محمد، يجب أن نبعثك بأقرب فرصة لإكمال شهادة الدكتوراه**.

ولستُ مبالغاً إذا قلتُ أن سكرتارية القسم كانت تؤدي جُهداً كبيراً في إسناد جميع نشاطات القسم، ولا سيما في موسم ألامتحانات حيث يطبعون أسئلة ألامتحانات بكل أمانة وإخلاص. وبدلاً من أن يحصل مثل هؤلاء الموظفين على الترقية وكتب الشكر والتقدير، يحصل العكس في معظم الأحيان. ففي يوم مُبارك من أيام مجد ألكفاءة الإدارية، ومقارعة الفساد ومنع سرقة المال العام، في احد هذه الأيام ارتقت قدرات وإمكانات الحرس الجامعي بتركيزها غير المعتاد وبحرصها الشديد على الممتلكات العامة، من كبس سرقة كانت تتم كل يوم أمام مرئ الناس بلا خوف ولا خجل! نعم استطاع الحرس الجامعي من أكتشاف السبب الحقيقي وراء النقص المستمر بمعدل ستة وردات مع أغصانها ووريقاتهما الخضراء أسبوعيا من حديقة الجامعة. ففي صبيحة يوم ربيعي مشرق، لاحظ احد الحرس المقدامين أن إحدى ألآنسات الجميلات المجهزة بأدوات جارحة حادة متمثلة بمقص مشحوذ من الجانبين، قطعت ست أغصان متوجة بورود حمراء تزدهر بها حدائق الجامعة المستنصرية بأعداد لا تحصى. تتبعها الحارس الفطن من بُعد كي لا تلاحظ الآنسة انه يُلاحقها. وأخيراً وصلت الى مكتبها، وعرف الحارس مركز عملياتها السري للغاية!

رجع هذا الحارس الحريص على المال العام إلى رئيس الحرس وأخبره بالواقعة، واقعة قطع زهور الجامعة وسرقتها، ونقلها من حدائق الجامعة إلى مزهرتين زجاجيتين أحداهما على مكتب السكرتيرة هاسميك والأخرى لتزيين مكتب رئيس القسم. رفع رئيس الحرس والحارس الأمين على زهور المسلمين، رفع تقرير تفصيلي بعنوان:

م : قاطــــــعة الزهـــــــور

كان الأمر الإداري مطالعة قانونية وإدارية مُذهلة ومُقنعة، لم تترك مجالاً للشك لدى رئاسة الجامعة المستنصرية، التي بدورها رأت من الضرورة والحكمة مفاتحة عميد كُلْيَة الإدارة والاقتصاد، الذي بدوره لم يجد سبباً مقنعاً في مجادلة كتاب قادم من الباب العالي لأعلى سلطة في الجامعة علمياً وإداريا وأخلاقياً، فبارك الكتاب الجامعي وبعثه إلى رئيس قسم الإدارة مشفوعاً بوشم متعارف عليه، “للاطّلاع واتخاذ ما يلزم رجاءً”. لم يكن رئيس القسم شخصاً نمطياً في التعامل،  لذا طلب من السكرتيرة المتفانية في عملها “هاسميك” التوقف عن قطف الثمار من بُستان المستنصر بالله والحاكم بأمره، إلا انه كان يتملك شجاعة متميزة، ولم يتخذ إجراءاً إدارياً بحقها، مناقضاً بذلك لتوصية فُرمان حُكام الزمان بـ “أتخاذ ما يلزم”. بعد ذلك تغير اسم الآنسة واصبح الكل يناديها بـ “قاطعة الزهور” بدلاً من هاسميك، وتعرض كتاب رئاسة الجامعة الى السخرية والأمتعاض في آن واحد.

محمد حسين النجفي
18 تشرين الثاني 2021
www.afkarhurah.com

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* لاحقاً زوجتي وشريكة حياتي. هاسميك اسم أرمني لوردة الـ “ياسمين”.
** طبعاً لم يحصل ذلك.
#الجامعة_المستنصرية      #محمد_حسين_النجفي     #موقع_أفكار_حرة    #afkarhurah.com

تشغيل الأطفال: قصة الحمال حميد نموذجاً

قصة نشرت في صحيفة المثقف الألكترونية، العدد: 5604 بتاريخ 8/1/2022  أفتح الرابط أدناه، أو إقرأها في هذا الموقع:

الرابط لصحيفة المثقف

يعتبر سوق الشورجة المركز التجاري الرئيسي لمدينة بغداد وعموم العراق. لذا يلجأ اليه الباحثون عن العمل سواء المهاجرين من القرى والأرياف وخاصة المناطق الجنوبية، أو المهاجرين من دول الجوار مثل إيران. وهناك طبعاً الأكراد الفيلية الذي يسكنون المناطق الحدودية الشرقية داخل حدود العراق وإيران.

كان لدينا في سوق الشورجة متجرين، الأول لتجارة الجملة ولخزن البضائع والمكتب، وموقعه في دربونة (زقاق) المعاضد، والثاني لتجارة المفرد في الدربونة المقابلة وهي دربونة حسين بن روح (مرقد وجامع). المهم ان سوق الشورجة مليئ بالحمالين (عتالين) الذين يساعدون المتسوقين لحمل ما تسوقوه الى سياراتهم. من بين هؤلاء الحمالين فتى أسمه “حميد”، عمره حوالي إثني عشر عاماً، كان مرابطاً أمام متجرنا في معظم الأوقات. شاب يجلب الأنتباه لشطارته وسرعته وطيبة لسانه، وقدرته البدنية. كان حميد يتطوع للمساعدة سواء في كنس او تنظيف المحل، او توصية شاي لزبائننا وما الى ذلك من الأمور البسيطة التي جعلته يتقرب الينا أكثر. كان اخي سعد يدير متجر المفرد وكان مكتبي في محل الجملة (الخان).

جاء ظرف كنا فيه بحاجة الى مساعد إضافي لأخي سعد. إتفقنا على ان نوظف حميد بشكل دائم معنا، بدلاً من ان يكون حمالاً نستخدمه وقت نشاء فقط. فرح حميد كثيراً، وشكرني عدة مرات لثقتنا به والأعتماد عليه. أظهر حميد نشاطاً ملفتاً للنظر، وحيوية وقدرة استيعابية غير طبيعية، ورغبة ملحة في تطوير نفسه معنا. سوق الشورجة وغيره من الأعمال التجارية لا تتحمل الطفرات السريعة، لذا كنت متأنياً في منحه صلاحيات البيع والأخذ والعطاء في التحصيل النقدي. كلما يراني حميد يقول لي: عمي كثير من الزبائن يأتون مبكرين، وسعد يأتي متأخراً، لو تعطيني المفاتيح أقوم بالواجب. طبعاً طلبه هذا واضح، وبدأت شكوكي تصل مناحي ثانية. مع ذلك ان بعض الظن أثمٌ، لذا لم اتصرف معه بنية مُغايرة.

عادة نغلق مكتب الجملة بحوالي ساعة قبل متجر المفرد. بعد ذلك أذهب الى متجر المفرد لمراجعة العمل مع أخي قبل إغلاقه. ولكن في احدى الأمسيات كان لدينا زبون متأخر، والبضاعة المشتراة في الخان. تبرع حميد بالذهاب، فأعطيته مفاتيح الخان. أنتبه أخي سعد على تأخر حميد أكثر من اللزوم، فطلبت منه اللحاق به ومعرفة سبب التأخير. تأخر سعد قبل ان يعود، وقال لي أنه من الأفضل ان أذهب الى الخان، فإن حميد قد فتح “القاصة”!!!!!!

يبدو أنني اعطيت حميد مجموعة المفاتيح التي بها مفتاح القاصة عن طريق الخطأ. ذهبت وكان حميد جالساً يبكي ويقول: عمي والله لم أسرق شيئ. ذهبت الى القاصة فحصتها لم ينقصها شيئ. حميد فتح القاصة، ولكن لم يعرف كيف يغلقها، ولايمكن سحب المفاتيح إلا بعد إغلاقها.  حاول حميد سحب المفتاح حينما اقدم عليه أخي سعد. طبعاً مما لا شك فيه حاول حميد ان يسرق، ولكنه أرجع ما سرق حينما فشل في غلق القاصة. سألته إذاً لماذا فتحتها؟ قال من باب الفضول فقط، لأعرف ما في القاصة.

كان الوقت متأخراً، سألته إن كان قد سرق منا أي شيئ، عليه ان يعترف لنا وإلا فسنسلمه للشرطة. حلف اليمين بعد الآخر، انه لم يسرق أبداً. طالبته بأن يأتي غداً مع ولي امره، ويجلب معه كل ما سرق منا وإلا سوف اسلمه الى الشرطة. جاء حميد في اليوم الثاني مع والدته، وهي إمراءة شعبية في أربعينياتها ومعها بعض البضائع التي نحن نرميها، لتقول هذا كل ما جلب لي حميد. أستمعت اليها جيداً، وقالت حميد مصدر معيشتنا لأن أباه قد تركنا وتزوج إمرأة أخرى. وحميد معيل لي ولأخوته. سألتها لماذا حاول سرقتنا، حلفت الأيمان انها لا دخل لها، وانه ألحق العار عليها، ورجوتني ان لا أحبسه وأيتمهم. قرار صعب كان لابد من إتخاذه، وكان الحكم كما يلي:

أنتِ مسؤولة أمام الله على تربيته، وعليك ان تتأكدي ان مصدر رزقه حلال.  سوف لن أسلمه للشرطة، ولن أعفو عنه. عليه أن لا يتواجد في مناطق عملنا، عليه ان يعمل في مكان آخر، ويتعلم الدرس، وإن وجدته ذات يوم هنا، سأسلمه للشرطة.

بقيت  قصة حميد الحمال في ذاكرتي منذ عام 1972 ولحد هذا اليوم، لأنه فتى ذو إمكانات هائلة. وإني لمتأكد لو مُنحت له الفرصة في تربية عائلية افضل، وتعليم مهني لتمكن من تحقيق عيش أفضل. كان هذا في عصر “الزمن الجميل” كما يقولون، يا ترى كم حميد هناك في مجتمعاتنا المعاصرة، التي لا يحصل حتى خريجي الجامعات على وظائف مناسبة. ومن يحصل منهم على وظيفة، فإنه في معظم الحالات يدفع ثمنها نقداً او بالأنتساب لمجموعة لا يؤمن بها، تدفعه لاحقاً للقيام بأعمال غير قانونية او غير أخلاقية؟

العديد من المشاكل الاجتماعية تؤدي الى عمالة الاطفال، من بينها الطلاق دون حقوق للمرأة او الابناء ، تعدد الزوجات، عدم تطبيق نظام الزامية التعليم للمرحلة الابتدائية، الرعاية الاجتماعية للاطفال، وغيرها مما يتطلب تدخل المجتمع والجهات الحكومية المختصة. كذلك يتطلب الامر تشريع قوانين صارمة تمنع تشغيل الاطفال. لذا فإن الحماية الأجتماعية للعوائل دون معيل وللأطفال مهمة جداً، وفرص العمل والتوظيف على الكفاءة لا غير. أتمنى أن يكون حميد قد وجد الطريق الصحيح له ولأخوته ولأمه المظلومة.

محمد حسين النجفي
رئيس تحرير موقع أفكار حُرة
1 كانون الثاني 2022
www.afkarhurah.com

#عمالة_الأطفال         #الشورجة

يوم تحولت النوادي الرياضية الى معتقلات

“جرائم لازالت بلا عقاب”
كما نُشرت في صوت الصعاليك 17 شباط 2022

يوم الجمعة 8 شباط 1963، المصادف الرابع عشر من رمضان من ذلك العام. إنه اليوم الذي أغتيلت فيه ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 وسُفكت دماء قادتها ومناصريها. انه اليوم الذي وجدت فيه السلطة الخائنة إن قوى الأمن والشرطة والمخابرات غير كافية لأعتقال الآلآف من الشباب. لذلك جندوا موآزريهم ووضعوا على زنودهم يافطات عار مكتوب عليها (ح. ق.) رمزاً لتسمية (حرس قومي)، يافطات مكتسبة من الحركة النازية في المانيا والفاشست في إيطاليا. سلحوهم بغدارات بورسعيد التي هربتها لهم مصرعن طريق سوريا كي تستخدم لأرجاع عجلة التاريخ الى الوراء بعد ان شهد العراق تقدماً إقتصادياً وإنفتاحاً إجتماعياً خلال أربع سنوات من عمر الجمهورية الفتية.

فما كان من الحرس القومي إلا ان يغزوا المصانع والمدارس والدوائر والحارات ليجمعوا كل ما هو غير غير بعثي او قومي. لم يجدوا أماكن  تكفي لتجميع المعتقلين، فحولوا النوادي الرياضية الى مراكز أعتقال وتحقيق وتعذيب وقتل. وليس نادي النهضة الرياضي في الكرادة الشرقية والنادي الأولمبي في الأعظمية وملعب الأدارة المحلية في المنصور ونادي الامة الرياضي بين الوزيرية ومدينة القاهرة، إلا نماذج تشهد على ما نقول. وحينما إمتلأت النوادي الرياضية، سيطروا على بيوت سكنية وحولوها الى مقرات حرس قومي، منها ما هوعلني ومكشوف للعامة، ومنها ما هو سري ومخصص للتحقيقات التي تؤدي الى نهايات فاجعة. أمثلة على ذلك، بيوت أستخدمت سراً للتحقيق في منطقة ألبو شجاع في الكرادة الشرقية، ومنها ما عُرف للشعب رغم عدم رسميته مثل “قصر النهاية” الذي أرتكبت به أبشع جرائم التعذيب والقتل، مما يندى لها جبين الأنسانية. جرائم لم يسبق ان قام بمثلها حتى جستابو هتلر أو فاشست موسوليني.

هذه الجرائم التي ارتكبت، معروف جُناتها، ولكنها مازالت تنتظر من يحقق فيها ويحاسب مرتكبيها، حتى وإن كان معظمهم قد فارق الحياة، لأحقاق حق من أستشهد على ايدي هؤلاء المجرمين، وليكونوا عبرة للتاريخ. مجرمون لازالت أسمائهم ترن في آذاننا، أمثال: منذر الونداوي، نجاة الصافي، عمار علوش، خالد طبرة، ناظم كزار، علي صالح السعدي، حازم جواد، طالب شبيب، أبو طالب الهاشمي، محسن الشيخ راضي، أحمد العزاوي (أبو الجبن)، علي رضا، سعدون شاكر، وغيرهم كثيرون في كل مدينة كبيرة وصغيرة في عموم العراق.

محمد حسين النجفي
رئيس تحرير موقع أفكار حُرة
www.afkarhurah.com

أم المناضل الصغير

كما نُشرت في مجلة الشرارة النجفية العدد (151) شباط 2022، صفحة 62:
أم المناضل الصغير

أستيقظ مفزوعاً على أصوات وضوضاء غير عادية. ميز تلك الأصوات الهمجية وهي تُعربد “أين إبنك؟”، أجابتهم: “انه ما زال نائماً، ماذا تريدون منه؟”، “خالة لا تطوليه، ابنك شيوعي وعليه اعترافات”، “هذا كذب، سوف أوقظه وأطلب منه النزول اليكم”. طرقت عليه الباب، وقالت: “إبني أستيقظ بسرعة، وبدل ملابسك، لقد جاءوا عليك مرة ثانية”.

غسل وجهه بسرعة ولبس ملابس دافئة ونزل من الطابق العلوي الى الطابق الأرضي وهو يسمع صياح وصراخ، وليرى أمه ماسكة بيدها اليسرى عباءتها من تحت حنكها، ويدها اليمنى مرفوعةً بوجه المدججين بالسلاح، والمنفوخين بغرور الغزاة العتاة. واقفة وسطهم تجادلهم وتحاججهم، بكل شموخ وكبرياء، دون ضعف أو بكاء، دون توسل أو إنحناء، ولكي تشد من أزره كانت تنظر نحوه بزهوٍ وافتخار، غير عابئة بصراخ إخوته الصغار. قال لنفسه: هذهِ أمي، أم المناضل الصغير، ولو لم أكن على علمٍ من أنها لا تقرأ ولا تكتب، لقلت إنها قد قرأت قصة “الأم” لمكسيم خوركي ألف مرة. 

نظر اليه الحرس القومي بتعجب وانبهار. تصَوروه عملاقاً ذو عضلات مفتولة كـ (هرقل) أيام زمان، أو سياسياً مخضرماً ذو شوارب ستالينية لافتةً للأنظار، إلا انهم صُدموا حينما رءوا ضحيتهم، بوداعة حمل صغير، وأناقة طالب مجتهد حريص يجلس دائماً في الأمام.

خرج معهم من باب الدار، ليرى ثلاث عربات عسكرية مسلحة مملوءة بالحرس القومي المعزز بالسلاح، كي يعتقلوا مراهقاً لم يبلغ السادسة عشر من عمره. الجيران واقفون أمام أبوابهم. تفاجؤوا حينما شاهدوهم يقتادون شاباً يافعاً، معروفاً في محلته بحسن أخلاقه، واستقامة سلوكه. ظل الجيران صامتون، لا يعرفون كيف يتصرفون، ينظرون للمشهد بذهول، كأنهم يشيعون جنازة فتى توفى قبل الأوان.

أقتاده الحرس إلى نادٍ رياضي كان قد تحول الى مقراً للقتل والانتقام، وطلبوا منه الانتظار مثل غيره في باحة مكشوفة، تلطم وجههم رياح باردة محملة بالرذاذ. صادف ان يكون ذلك، يوم الخميس الرابع عشر من شباط من عام 1963 “يوم الحب”، يوم لا حُب فيه ولا سلام ولا وئام. تذكر “بافل” في قصة الأم لغوركي، وتذكر “فهد” ورفاقه الذين أعدموا في مثل هذا اليوم عام 1949، ولاح أمامه وجه أمه الشامخة بكل هيبة وعنفوان، واستمد من كل ذلك طاقة لا يقهرها أعتى الطغاة، ووعد امه من انه لن يكسر كبريائها مهما جار عليه مغول هذا الزمان. 

فرش الظلام الرطب عتمته، في تلك الليلة من ليالي الأشهر التسع السوداء.  جاؤوا بالعديد من المعتقلين الذين جرى ترحيلهم الى حيث لا يعلم أنسٌ ولا جان، إلى أن جاء دوره. اقتادوه بعد الساعة العاشرة ليلاً المنتصرون بقوة السلاح، حماة الوطن من خطر “مثقفي الأفكار الهدامة”، على مستقبل عروبة دار السلام. اقتادوه إلى بيت خرب مهجور دون علامة أو رَقْم أو بيان. وطلبوا منه في تلك العَتَمَة من الليل، في ذلك الدِّهْلِيز المظلم، أن يجلس بانتظام، ويستمع الى أنين وصراخ الذين سبقوه في تلقي سياط جلادي المكان، وأن ينتظر دوره كي يحل في ضيافة المحققين اللئام.

8#_شباط_1963     #الحرس_القومي     #14_رمضان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قصة مستوحاة من وقائع حقيقية حدثت بعد ردة 8 شباط عام 1963

من جرائم البعث عام 1963: إسقاط الجنسية العراقية

“ردة شباط عام 1963 مسؤولة بشكل مباشر عن تردي المستوى الثقافي والعلمي في العراق لأنها حاربت المثقفين المخلصين”

بموجب الكتاب السري والمستعجل الصادر من وزارة الداخلية بتاريخ 26/10/1963، المرقم ق. س. 11660، تم سحب (إسقاط) الجنسية العراقية عن إثني عشر مثقفاً عراقياً. صدر هذا الأمر الجائر غير القانوني في تلك الفترة التي تعتبر الأكثر ظلاماً ودمويةً في تاريخ العراق الحديث. إنها الفترة التي ابتدأت في 8 شباط 1963 وإنتهت في 18 تشرين الثاني لنفس السنة. القرار يقول سحب الجنسية العراقية، بموجب قانون الجنسية العراقية المرقم (43) لسنة 1963. أي ان القانون عُدل في تلك السنة، كي تستطيع السلطة السلطة الغاشمة من أعطاء الجنسية لكائن من كان، ومن القدرة على سحبها من أعرق العراقيين إنتماءاً. الجنسية العراقية او اي جنسية على وجه الأرض حق وليس إكتساب، لمن يولد من أحد الأبوين في أي وطن. وبالتالي لا يوجد من يحق له سحب الجنسية.

نرجع الى السؤآل الأصلي من هم هؤلاء الأثني عشر شخصاً، ولماذا أسقطت عنهم الجنسية؟ إنهم مجموعة من المثقفين المناضلين النشطين الذين ينتمون للأفكار اليسارية وقسم منهم قياديون في الحزب الشيوعي العراقي، لم تستطع سلطة البعث أعتقالهم كي تعذبهم وتسجنهم أو تقتلهم، لأنهم كانوا وقت الأنقلاب خارج الوطن، أو إستطاعوا الهروب خارج الوطن. إذن كيف تقتلهم هذه السلطة دون ان تعتقلهم؟ وجدوا الحل: بأسقاط جنسياتهم العراقية، وظنوا بذلك أن هؤلاء المناضلين سوف يتخلون عن نشاطهم السياسي وولائهم للوطن.

هذه الكوكبة تضم اول أمرأة تصبح وزيرة في العراق والوطن العربي، وتضم شاعر العرب الأكبر، شاعر دجلة الخير، وتضم كاتب أجمل مسرحية عراقية “النخلة والجيران” والذي ترجم 80 كتاباً من اللغة الأنكليزية والروسية للعربية. تضم من عرفنا على ثورة الزنج والدولة الحمدانية. وتشمل شاعراً من رواد الشعر الحر والذي ترجم أعمال الشاعر التركي الخالد ناظم حكمت. وتتضمن خيرة الأدباء ورواد الصحافة والفن التشكيلي. أكثر من كل هذا وذاك تتضمن إثني عشر مناضلاً محباً مخلصاً لوطنه، مهما كانت توجهاتهم السياسية سواء أتفقنا معها أم لا. أضع بين أيديكم نسخة الأمر
الأداري الجائر، وموجز عن هؤلاء المناضلين الذين شملهم القرار:
 

  • محمد مهدي الجواهري:
    وُلد عام 1899 في مدينة النجف الأشرف، شاعر العرب الأكبر، شاعر اللغة الفصيحة والشعر المقفى، شاعر الأنتفاضات والثورات الشعبية، شاعر دجلة والفرات وأم عوف، الشاعر الذي كتبت أبيات من قصيدته العصماء “آمنت بالحسين” بالذهب في الحضرة الحسينية. أديب وشاعر وصحفي ونقيب للأدباء والصحفيين في آن واحد. كان فكره تقدمياً حراً ولم ينتسب للحزب الشيوعي. توفى عام 1997 في دمشق ودفن في الزينبية.
                                                                                                             
  • فيصل السامر:
    وُلد عام 1924 في مدينة “المدَيْنة” في محافظة البصرة، ومن عشيرة “السامر”. خريج كلية الملك فيصل للموهوبين والمتفوقين، وخريج جامعة القاهرة في تحصيل البكالوريوس، والماجستير عام 1950 بأطروحته “حركة الزنج” ، والدكتوراه بعنوان “الدولة الحمدانية في الموصل وحلب”. خدم قي مهنة التعليم وتقلد مناصب عديدة، حتى أصبح وزيراً للأرشاد عام 1959. ومن منجزاته تأسيس وكالة الأنباء العراقية، والفرقة السمفونية ودار الأوبرا. ألف العديد من الكتب ونشر العديد من البحوث. كان فكره تقدمياً ولم ينتمي للحزب الشيوعي. توفى في بريطانيا عام 1982.
  • الدكتورة نزيهة الدليمي:
    وُلدت في بغداد عام 1923، وتخرجت من كلية الطب، جامعة بغداد. ناشطة سياسية من أجل حقوق المرأة، وإحدى أهم رائدات الحركة النسوية في العراق. أول أمرأة تستلم منصباً وزارياً في العراق وفي العالم العربي عام 1959، لتصبح وزيرة للبلديات. ساهمت في إعداد قانون الأحوال الشخصية رقم (188) لسنة 1959. ساهمت في تأسيس وأنشاء مدينة الثورة (الصدر حالياً)، ووزعت قطع الأراضي على سكان الصرائف في منطقة الشعلة. قيادية في الحزب الشيوعي العراقي، وتعرضت للفصل والأعتقال، وصدر بحقها حكم غيابي بالأعدام. توفيت في المانيا ودفنت في بغداد عام 2007.
  • الدكتور صلاح خالص:
    وُلد في البصرة عام 1925. حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون الفرنسية المرموقة في الأدب الأندلسي عام 1952. عمل أستاذاً في كلية الآداب. كاتب وأديب ومؤسس لأتحاد الأدباء العراقيين مع رفاقه من المثقفين ومنهم الجواهري الكبير. ألف ثلاث كتب عن الأدب الأندلسي في أشبيلية. وهو من جيل القامات الأدبية مصطفى جواد وحسين أمين وعلي الوردي وفيصل السامر وعلي جواد الطاهر. كان محررا لمجلة الأديب، ولعب دوراً بارزاً في إصدار مجلة “الثقافة الجديدة” منذ عام 1953. وكغيره من المثقفين أمضى حياته في تقديم المآثر النضالية وإشاعة الفكر العلمي التقدمي. عمل مدرساً في قسم اللغة العربية بكلية الآداب وتخرج على يديه جيل من المثقفين الملتزمين. تعرض للسجن والأعتقال في العهد الملكي عدة مرات لمهاجمته الأستعمار والرجعية. تميز بالجرأة والشجاعة والصراحة في المواجهة. نشر العديد من الكتب والبحوث والمقالات. عضو مؤسس في نقابة الصحفيين العراقيين، وعضو مؤسس في نقابة المعلمين وأتحاد الصحفيين العرب.
  • الزعيم هاشم عبد الجبار:
    أخ الزعيم عبد الكريم قاسم بالرضاعة. آمر اللواء العشرين مُشاة. رئيس هيئة التحقيق الخاصة في محكمة الشعب. أثناء محاولة إغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1959، بادر دون أوامر من الزعيم للنزول الى بغداد والأنتشار فيها تحسباً، لصد مؤآمرة إسقاط السلطة. لم يستزغ الزعيم ذلك، وأبعده كما ابعد الكثيريين ممن كانوا مخلصين له ولثورة تموز. ألتحق بوزارة الدفاع يوم 8 شباط 1963 للدفاع عن ثورة تموز، مثله مثل وصفي طاهر وفاضل عباس المهداوي. في مساء يوم 8 شباط وبعد ان تبين ان الموآمرة قد نجحت، طلب الزعيم من العديد من الضباط ومنهم هاشم عبد الجبار التسلل في جنح الليل عبر ضفاف نهر دجلة. توفى عام 1975 في المانيا ودفن فيها.
  • نوري عبد الرزاق حسين:
    أرسله والده للدراسة في إنكلترا في العهد الملكي، إلا انه فُصل لنشاطه السياسي ضد حلف بغداد. ذهب الى القاهرة للدراسة. عاد الى العراق بعد ثورة تموز عام 1958 وأصبح السكرتير العام لمنظمة الشبيبة الديمقراطية، ثُم أصبح سكرتير أتحاد الطلاب العالمي عام 1960. ناشط سياسي عالمي، صديق لياسر عرفات وجيفارا وجورج حبش وخالد محي الدين وعبد الفتاح إسماعيل والكثير من الثوريين اليساريين في العالم.
  • عبد الوهاب البياتي:
    وُلد عام 1926 في بغداد. وهو من جيل رواد الشعر الحديث (الحر)، مُعاصراً بدر شاكر السياب ونازك الملائكة. خريج الأدب العربي. عمل صحفياً، وكتب في مجلة “الثقافة” وأعتقل في خمسينيات القرن الماضي لمواقفه السياسية. ترجم الكثير من أعمال الشاعر التركي التقدمي “ناظم حكمت”، وعانى ما عاناه حكمت من تشرد وسجون وأضطهاد. وبسبب أفكاره عاش جزءاً كبيراً من حياته في المهجر، ما بين القاهرة ودمشق وبيروت. عمل ملحقاً ثقافياً في أسبانيا في الثمانينيات، وتأثر كثيراً بالأدب الأسباني. توفى ودفن في دمشق عام 1999.
  • ذو النون أيوب:
    وُلد في الموصل عام 1908. صحفي وروائي ومحرر وكاتب قصص قصيرة. كاتب لسير ذاتية ومدرس وناقد أدبي. إنتسب للحزب الشيوعي لفترة وجيزة لا تتعدى العام الواحد. عمل في الحزب الوطني الديمقراطي، وجمعية الدفاع عن الشعب العراقي في براغ عام 1963. توفى في بغداد عام 1996.
  • غائب طعمة فرمان:
    وُلد عام 1927. تخرج من كلية الآداب بمصر. له الكثير من الأعمال الأدبية القصصية والمسرحية، من بينها القربان، المخاض، ظلال على النافذة، وأشهرها مسرحية “النخلة والجيران” التي مازالت خالدة في ذاكرة من شاهدوها، كما قدمتها فرقة المسرح الحديث. ترجم ثمانون كتاباً من اللغة الأنكليزية والروسية الى اللغة العربية. مجموعاته القصصية، حصاد الرحى، ومولود آخر. يقول عنه الناقد جبرا إبراهيم جبرا: (يكاد يكون الكاتب العراقي الوحيد الذي يُركب أشخاصه وأحداثه في رواياته تركيباً حقيقياً). توفى ودُفن في موسكو عام 1990.
  • محمود صبري:
    وُلد يوم 14 تموز عام 1927 في بغداد. درس العلوم الأجتماعية في إنكلترا، وتطور إهتمامه الى فن الرسم، ليصبح فناناً تشكيلياً، وأحد رواد الفن العراقي الحديث. كان رائداً في القضايا الأجتماعية والسياسية في خمسينات القرن الماضي. درس الفن في أكاديمية موسكو للرسم والنحت والعمارة. عضواً مؤسساً في “جماعة الرواد” في عام 1950 مع فائق حسن. لديه عدة مطبوعات عن الفن والفلسفة والسياسة باللغتين العربية والأنكليزية. يقول عنه الناقد جبرا إبراهيم جبرا: (كان لمحمود صبري تخطيط قوي جعله الأساس في ما يرسم من مشاهد الفقر والشظف والتمرد، مؤكداً على الطريقة العراقية في الحياة، جاعلاً منها صرخة عنيفة في وجه الظالم، إجتماعياً كان أم سياسياً.
  • الدكتور رحيم عجينة:
    وُلد في مدينة النجف الأشرف عام 1925. ترعرع في محلة “البراك” في شارع موسكو، وهي محلة حاضنة للناشطين اليساريين. من العوائل التي سكنت تلك المحلة عائلة الوجيه “محسن عجينة” والد الدكتور رحيم، وعائلة السيد أحمد الرضي الموسوي والد الشهيد حسين أحمد الرضي “سلام عادل” سكرتير الحزب الشيوعي العراقي أبان ردة 8 شباط 1963.  تخرج دكتور عجينة طبيباً وتخصص بالأمراض المستوطنة وتزوج المناضلة دكتور بشرى برتو، من عائلة برتو المعروفة بمواقفها الوطنية. رئيس جمعية الطلبة العراقيين في لندن، ومن قادة الحزب الشيوعي العراقي. يقول عنه عديله الدكتور فاروق برتو في نعيه له بعد وفاته ودفنه في لندن عام 1996:  يمتاز بـ (الخلق الرفيع وعفة اللسان والأدب الجم حد الخجل، يحمر وجهه خجلاً ويهرب من المجلس الذي يلفظ فيه قبيح الكلام. الصدق والأمانة خصلتان متميزتان من خصاله. ذا فكر واسع جوال، عاكفاً بأستمرار على القراءة والبحث والمتابعة اللصيقة بالأحداث والتيارات الفكرية الهامة).
  • عزيز الحاج علي حيدر:
    وُلد في مدينة الكاظمية عام 1926. تخرج من دار المعلمين العالية عام 1947. إنتسب للحزب الشيوعي العراقي عام 1946، وحُكم عليه بالمؤبد عام 1948 التي قضى معظمها في نقرة السلمان، لحين إطلاق سراحه بعد ثورة 14 تموز 1958. درس في موسكو وبراغ، واصبح قياديا في الحزب الشيوعي، ليقود بعد ذلك أكبر إنشقاق في الحزب عام 1967، تحت تسمية ” القيادة المركزية”، التي سرعان ما أنتهت بعد اعتقاله من قبل سلطة البعث عام 1969، وإعترافات عزيز وبقية القادة تحت وطأة التعذيب. عُين سفيراً للعراق لدى اليونسكو لمدة ثلاثين عاماً. أستطاع في تلك الفترة من ان ينشر ثلاثين كتاباً عن سيرته وتجاربه السياسية التي كان من أهمها ” شهادة للتاريخ: أوراق في السيرة الذاتية”. يقول عنه الكاتب والناشط السياسي، الدكتور عبد الخالق حسين: (كان في منتهى الوطنية والأنسانية والطيبة والأخلاق الرفيعة). توفى ودُفن في باريس عام 2020. 

الخلاصة:
كيف يمكن لأي سلطة مهما كانت غاشمة ان تُبعد رواداً للثقافة في بلدها. إنها مجموعة تتودد الدول الأخرى لأحتضانهم والأستفادة من نتاجهم الفكري والتعليمي. هؤلاء عينة لما حدث في عام 1963 بعد ردة 8 شباط الدموية. حيث تمّ إعتقال الآلآف من الطلبة والمعلمين والأساتذة الجامعيين والعمال الناشطين، ورميهم بالسجون وتعذيبهم وقتل العديد منهم. ردة شباط عام 1963 مسؤولة بشكل مباشر عن تردي المستوى الثقافي والعلمي في العراق لأنها حاربت المثقفين المخلصين بشتى الوسائل ومنها إسقاط الجنسية عن الذين لم تستطع ان تضع ايديها على أعناقهم. جرائم لا زالت بلا عقاب. 

محمد حسين النجفي
www.afkarhurah.com
شباط 2022
كما نُشرت في طريق الشعب العدد (51) 7 شباط 2022، الصفحة الثامنة

 

You have successfully subscribed to the newsletter

There was an error while trying to send your request. Please try again.

أفكار حُـرة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي will use the information you provide on this form to be in touch with you and to provide updates and marketing.