سيرة طلبة جامعيين: عباس ومحمد وتوماس نموذجاً

من اهم ميزات التحصيل الجامعي إنها تجمع الطلبة من كل المحافظات في صف واحد. ومن بين هؤلاء ثلاثة طلاب احدهم من كربلاء والثاني من تكريت والثالث من بغداد. اجتمعوا في الجامعة المستنصرية لغرض التحصيل العلمي وفي صف واحد. طبعا من المؤكد ان الخلفية البيئية والتربية العائلية تؤثر على السلوك الفردي وتميزه نوعا ما. هؤلاء الثلاثة  تفاعلت معهم أو تفاعلوا معي من خلال دراما فريدة من نوعها مررت بها شخصياً معهم واليكم القصة باختصار:

جائني الطالب عباس ماشاء الله، وبشكل مقصود كي يحدثني في امر هام. قال لي اذا تسمح لي أستاذ محمد اود الحديث معك في امر خاص. سألته اين يسكن؟ قال في البتاوين، قلت حسناً أنت في طريقي، انتظرك بعد انتهاء الدوام كي نرحل معا. عباس كان احد الطلبة الذين اعرفهم جيدا لأنة كان احد طلبتي في الصف الثاني صباحي وفِي السنة اللاحقة في الصف الثالث حيث انتقل الى الدراسات المسائية بعد توظيفه.

وفي طريقنا سألته ما الذي تريد ان تحدثني عنه؟ قال لي: استاذ اترجاك ان تترك محمد التكريتي لحاله ولا تعطه فرصة كي يؤذيك. قلت: ولماذا يؤذيني؟ قال: اعطاك البحث المطلوب متأخراً ولم تقبله منه، وبعد خروجك من الصف، بدأ بالتحدث عنك بسوء وبالتوعد وانك شيوعي وعجمي وانك كذا وكذا وكذا، وانه سوف يلقنك درساً لا تنساه. استمعت لهذا الحديث المذهل من تحدي طالب جامعي لأستاذه. قلت لعباس ان هناك حد ادنى للمتطلبات العلمية وهو يعرف الموعد لتقديم البحث الذي تحدثت عن اهميته عدة مرات، وأهمية ان يُقدم في الموعد المحدد. وعليه، ما عليه إلا ان يلوم نفسه. بعد ان استمع لي عباس بهدوء، بدأ يتحدث معي كأنه اب او اخ كبير، وقال لي: استاذ انت ومثالياتك تعيش في عالم آخر. محمد يعلم انك لستَ بعثياً ولا سند لك وهو تكريتي وبعثي وضابط في الجيش، والمعادلة غير متوازنة. اترجاك استاذ ان تكون مرناً بدل من ان تكون ضحية لموضوع تافه. شكرت عباس لتحذيري، وقلت له متى كان الحفاظ على المستوى العلمي لخريجي جامعاتنا تافها، ولا يستحق التضحية؟ قلت هذا القول وانا اعلم من انني ربما اترجح على حبل سلكي رفيع، فوق مسبح كونكريتي خالي من الماء. كان ذلك في عام  1978 حينما كانت سيطرة الدولة والحزب في اوجها وكان معظم الأساتذة والطلاب بشكل او بآخر قد اعلنوا ولائهم لحزب البعث. أخذت الأفكار المرعبة تراودني بعد ان ودعت عباس. ولكن ما العمل؟ وبعد تفكير وتفكير توصلت الى نتيجة ان ما حدث قد حدث ومن الصعب اصلاحه. ولا يمكن ان اعتذر او اتنازل خاصة لما كان متوفراً لدي من كبرياء وعز لمنزلتي كأستاذ جامعي وما تربيت وتمرست عليه ودفعت ثمناً غالياً له في المراحل الأولى من شبابي. 

مدخل الجامعة المستنصرية

وبعد ذلك بأسبوع او اسبوعين جائني توماس وهو مراقب الصف الذي به عباس ما شاء الله ومحمد التكريتي، وقال لي: استاذ ممكن ان اتحدث معك بموضوع شخصي، قلت: خيراً تعال معي لغرفة الأساتذة. جلسنا في زاوية كي لا يسمعنا احد وقلت له تفضل توماس ما هو الموضوع؟ قال لي استاذ هذا محمد التكريتي اعتدى عليّ واهانني وضربني امام الطلاب والطالبات، واريدك ان تأخذ حقي منه. قلتُ له: ولكنك مراقب الصف ومُعيّن من قبل الأتحاد، فلماذا لا تذهب لهم؟ قال لي: “صدك تحجي استاذ!” هذا تكريتي يا اتحاد الي يوكف بوجهه”. قلت حسناً اذهب الى مساعد العميد لشوؤن الطلبة. قال: استاذ الكل يخاف منه. قلت: وما الذي استطيع ان افعله انا، ولماذا اخترتني بالذات؟ اجابني بأنه شاهدني كيف رفضت اخذ البحث منه وانني لا اخاف منه. قلت في نفسي من انك لا تعلم من انني لا انام الليل منذ ذلك الموقف البطولي الذي ورطت نفسي به.

مرت الأيام ولاحظت تغيب محمد عن الحضور لفترة ما، فسألت عنه قالوا لي من ان والدته مريضة وبحالة خطرة. ذكرني ذلك بخسارة والدتي قبل ذلك بأربعة أعوام. شعرت بالتعاطف معه لما يمر به متمنياً من كل قلبي ان يمنح الله والدته الشفاء. وفي يوم ما صادف ان رأيته يمشي امامي في الممر الرئيس بأتجاه بوابة الجامعة المستنصرية. بادرت بالسلام عليه وسألته عن صحة والدته، اجابني شكراً استاذ انها في تحسن مستمر، قلت الحمد لله وانشاء تستكمل الشفاء. بدى على محمد الأستغراب من اني اعلم بموضوع والدته واني مهتم بشوؤنه. ونحن في هذا الحديث الأيجابي، سألته هل تعلم ما هو اسمك؟ قال: محمد، قلت: كلا ما هو اسمك؟ اجابني محمد التكريتي. قلت له وماذا يعني ذلك لك؟ هل يعطيك لقب التكريتي صلاحيات مطلقة كي تفعل ما تشاء وتهين من تشاء، ام يجعلك تشعر بمسوؤلية كبيرة تجاه زملائك في العمل وفي الجامعة؟ استغرب وارتبك جداً من طبيعة وصلافة السؤآل. قلت له يا محمد ان اسمك يوحي انك جزء مهم من الدولة وعليه فإن الناس عموماً وزملائك الطلبة خصوصاً ينظرون الى تصرفاتك ومن خلالها يبنون موقفهم من الدولة، فعليك ان تكون حريصاً اكثر من غيرك لا بل المفروض ان تكون القدوة الحسنة، ألا تتفق معي على ذلك؟ اجابني بنعم استاذ، ولكن ما الذي فعلته كي تقول لي ذلك؟ قلت جاء لعلمي انك اعتديت على زميلك توماس امام الطالبات وهو شاب مثلك وهو ممثل للأتحاد. هل تعتقد ان ذلك شئ كان يجب ان يحدث؟

احسست من ان محمد شعر بالحرج والخجل وتعهد لي من انه سيصلح الموضوع وانه سوف يعتذر من توماس. قلت له مثل ما اعتديت عليه امام الكل عليك ان تعتذر منه امام الجميع وامام زميلاتكم الطالبات على وجه الخصوص. وفعلاً حدث ذلك واصبح محمد يبتسم لي كلما رآني وكأنه يريد ان يشكرني مرارا وتكرارا . حينها بدأت انا وعباس وتوماس وكل الذين حول محمد يتنفسون الصعداء. فترة عصيبة مررت بها وحيداً ومر بها العديد من الطلبة والتدريسيين ولم نستطع طلب العون من احد ولكني اخترت طريقا محفوفا بعض المخاطر. النتيجة كانت جيدة بأمتياز. الصراع بيننا لم يكن سياسياً او اكاديمياً بقدر ما كان اخلاقياً. ان مخاطرتي بفتح الحوار بهذا الشكل ادت نتائجها لسببين اولهما ان شخصية محمد طيبة من حيث الأساس، إلا ان البيئة والاندفاع السياسي أثرت عليه سلباً.  والسبب الثاني هو احساسه بمصداقية وإخلاص كلامي معه ولذلك اخذ به. وفي اعتقادي ان الهيئات التدريسية تقتصر في جهدها على تدريس العلوم فقط وتتجنب لا بل وتبتعد عن لعب اي دور ثقافي او تربوي. وهذا يشكل نقصاً كبيراً في التعليم الثانوي والجامعي. ولا شك ان مشكلة العراق حالياً هي اخلاقية على العموم قبل ان تكون سياسية او دستورية او طائفية، وينطبق عليها قول أمير الشعراء أحمد شوقي:

 إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا

محمد حسين النجفي

www.mhalnajafi.org

#الجامعة_المستنصرية    #محمد_حسين_النجفي     #التعليم_في_العراق      

10 Comments on “سيرة طلبة جامعيين: عباس ومحمد وتوماس نموذجاً

  1. اخي الغالي ابو عامر
    كما عهدتك لم ولن تتخلى عن مبدئك الذي آمنت به مهما تغيرت الظروف المحيطة بك سواء في الشدة او الرخاء هذا من ناحية ومن ناحية اخرى سرعة البديهة التي تمتاز بها وقدرتك على مجارات الأمور وعدم انفعالك وصمودك حفظ لك حقك وحفظك من كل مكروه

  2. It is interesting that we both had the same kind of experiences.
    I taught during the year 1966-1967.
    However, I was not aware of the politics surrounding me as I had left Iraq in 1957, before the 1958 Revolution and had just returned from the U.S.

    • Dear Asim
      For each historical era has its own challenges. The core of the issue here is that The Academia as faculties and as curriculum and lectures must have independence from governmental, social and political pressures. The other issue here is the role of the teacher to promote ethic values and playing role model to there students.
      Thank you Asim for your interest and contribution

  3. اخي العزيز محمد النجفي..مقالة لطيفة وسلسة واكيد تعبر عن الوضع في تلك الحقبة واستعمال لقب التكريتي والعاني الخ للواسطة وبافتخار بينما النجفي
    والحلي يعمل على التستر
    اشيد لك وقوفك مع المستورين اللذين هم مثل توماس
    ودفاعك عن رمز المدرس والتدريس اللذين ترتقي بهما الدول او تنزلق
    اود ان اعلم اذا كان هناك مؤتمرات او
    workshops للمدرسين
    مع تحياتي الحارة

    • عزيزي مؤيد ان التعليم وخاصة الجامعي قد تدهور الى أقصى الحدود ليس علميا فقط وإنما اخلاقيا. وإذا كان الطالب يستقوي بانتمائه الحزبي أو الجغرافي فانه اليوم قد أضاف لها إنتمائه الطائفي والعشائري والى غير ذلك مما يفسد المدرس والطالب. التعليم وخاصة الجامعي بجب ان يكون ..١٪؜ مستقلا بعيدا عن السياسة والدين وكل انواع النفوذ الأخرى . في عام ٣..٢ كان هناك ورشات عمل للأسف انتهت مثلها مثل كل الامال.
      شكرًا لإضافتك القيمة.

  4. الله يكون في عونك اخي شلون رعب بعضهم لا ذمه ولا اخلاق
    لا يسعني وبعد كل هذا الوقت والسنين سوى ان اكون اكثر وأكثر فخرا واعتزازا بك اخي وقره عيني والحمد لله اللي حفظك وحماك لتعيش حياتك في سلام بعيدا عن المتعالين والحاقدين والعنصريين وأشكر الله وأحمده كثيرا على نعماه
    ونقطه اخرى الا وهي الاهميه التربويه من قبل الاستاذ اتجاه الطالب فهي لا تقل اهميه عن الدروس وتلقي العلوم أبدا فالأستاذ أب ورسول ثاني للطالب لاهميه الجانب الاخلاقي للفرد يعيش في مجتمع متمدن واتفق معك اخي فقد كان نادرا جدا ان يقوم أستاذ الطالب بهذا الدور فكيف والوضع في العراق كان لا يسمح بتاتا ان تواجه وتتحدى وبالذات حالناووضعنا الضعيف
    الحمد لله على سلامتك اخي

    • احسنت اختي في تأكيدك على دور الأستاذ التربوي في التعليم الثانوي والجامعي. لقد لاحظت غياب هذا الدور المهم حينما كنت طالبا وحينما كنت تدريسيا. ربما يكون السبب هو تجنب المشاكل والأحتكاك او سوء الفهم احيانا. ولكن في جميع الحالات لم تكن ادارات المدارس او الكليات قد منهجت الدور التربوي وشجعته. وعليه حينما يأخذ التدريسي هذا الدور على عاتقه سيكون على مسؤوليته فقط. وليس هناك من يود تحمل مثل هذه المسؤولية. شكرا لأضافتك المهمة مع محبتي الأبدية

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You have successfully subscribed to the newsletter

There was an error while trying to send your request. Please try again.

أفكار حُـرة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي will use the information you provide on this form to be in touch with you and to provide updates and marketing.